أقسام المدونة

الأحد، 21 أبريل 2013

هل غيرت الجماعة الاسلامية اسلوبها


حين دخل كرم زهدي إلى ساحة سجن الوادي الجديد، وخلفه قيادات الجماعة الإسلامية التاريخيون ليقول "أقسم بالله العلي العظيم أني أقول هذا الكلام ليس رهبة ولا خوفا من هؤلاء -وأشار إلى الضباط- لكنه اتقاء مرضاة الله سبحانه.. إن ما فعلناه كان خطأ وما حدث كان فتنة"، كنت أتوقع أن ذلك إيذان بمرحلة جديدة وخطاب دعوي وسطي.

كان يتضح ساعتها حرص قيادات الجماعة على إظهار وحدتهم وأنهم صف واحد، ولا يوجد بينهم أي اختلاف في هذا القرار المصيري، رغم أن الخلافات ظهرت في كواليس مستشفى السجن الذي يقيمون به، بين علي الشريف وبعض قيادات الصف الثاني بالجماعة، حين قال إن كل ما فعلناه كان شرا مطبقا.

في نهاية ندوات تصحيح المفاهيم صدرت بعض القرارات، ومنها عزل محمد يحيى، وهو الذي كان فترة التسعينيات مساعدا لعلاء محيي الدين المتحدث الرسمي للجماعة، كما صدر قرار بإبعاد علاء صديق أحد قيادات الجماعة بسوهاج عن إمارة الجماعة بسجن الوادي الجديد، ثم تسكين د. أحمد عبده سليم أمير الجماعة بأسيوط دون تكليف واضح، وبدا أن ما فوق السطح يختلف عما يجري بداخله، وأن هناك صراعا قائما حول تفصيلات المبادرة، وإن كان الجميع قد أقر بوقف العنف، وأن صراعا على هذه التطبيقات يجري، قاده فريق كبير بقيادة عبود وطارق الزمر وعصام دربالة وعاصم عبد الماجد، والفريق الآخر الذي يقوده كرم وناجح وفؤاد الدواليبي.

تأكد المعتقلون من ذلك بعد إبعاد عصام دربالة وعاصم عبد الماجد عن ندوات تصحيح المفاهيم، وعدم دورانهم في رحلات تلك الحوارات، بالإضافة إلى عزل عبود وطارق الزمر تماما عنها، حتى بدأ يتكون جناح موالٍ لهم على اعتبار أن هذه المبادرة بها بعض التطبيقات الخاطئة، ومنها التنازل عن كل شيء دون تحقيق أي مكاسب، وحين قال كرم في أحد حواراته إن السادات شهيد انقسم السجن، واضطروا إلى عمل ندوات أخرى لتوضيح الأمور، وساعتها أنكر كرم قوله، وعاد بعد الإفراج عنه ليؤكد ما قاله من قبل. وكلنا لاحظ عبود الزمر بعد خروجه من السجن حينما قال: "لقد خرجت بعزة وكرامة"، في إشارة إلى المبادرة.

بخروج جميع المعتقلين من السجون وإطلاق موقع الجماعة الإلكتروني بدا الغياب الواضح لقيادات كثيرة، منها صفوت عبد الغني وضياء فاروق وأحمد عبده سليم وغيرهم، وظل الوضع ثابتا كما هو عليه، على اعتبار أن الموقع لا يمثل مجموع الجماعة، وأنه موقع كرم وناجح فقط، حتى جاءت الثورة المصرية فأكسبت الجميع الشجاعة ليعبروا عن آرائهم، وبالأخص بعد الإفراج عن عبود وطارق الزمر ورفاعي طه ومصطفى حمزة الذين أضافوا رقما صعبا جديدا في تلك المعادلة، وأصبح ما تفعله الجماعة الإسلامية من محاولة لإنشاء لجان شعبية، وما نسمعه ونقرؤه من تصريحات لقياداتها، وتحوّلاتها بعد الثورة لهو انقلاب على تفصيلات المبادرة، وأضحى خطابها لا يختلف كثيرا عن الخطابات التعبوية العنيفة في الماضي، في بيئة الثورة التي فرضت جيلا جديدا على الأرض، ورفعت أصواتا كانت غائبة من بعيد، وأعطت حرية لشخصيات كانت غير منتظرة في هذا الوقت.

كان من نتاج أيام الثورة الأولى الانقلاب الواضح على كرم زهدي وناجح إبراهيم وخطابهما، في خطوة غير متوقعة، أدت إلى تفقد الجماعة وجمعيتها العمومية أصواتا معتدلة، ويبقى في مجلس شوراها كل المتورطين في قضايا الدم، والذين كان من الأجدى محاسبتهم على ما اقترفوه في الفترة الماضية، إلا أنه تم تكريمهم وتقديمهم، وإغلاق الملف برمته، خوفا من أن يؤدي إلى تفتيت الجماعة التي عادت إلى العمل العلني مرة أخرى فاحتلت جميع المساجد التي أُخذت منها بعد الغياب الأمني. وحاولت أن تجمع كل أفرادها الهاربين والشاردين، ومن كانت تطلق عليهم في السجون "التائبين"، حتى تواكب وتماشي كثرة الإخوان والسلفيين، رغم أنها لم تكن في حاجة فعلية إلى ذلك، بل إلى عمل برنامج للإصلاح الداخلي ثم بناء الجانب الاقتصادي لأفرادها الذين ساروا وراء قيادات الجناح العسكري بعد أن سيطروا على الجماعة دون انتخابات حقيقية لقادتها.

****

في محاضرته التي سبقت دفعات الإفراج عن أعضاء الجماعة، وبين 3 آلاف معتقل في سجن الوادي الجديد، قال اللواء الراحل أحمد رأفت، والذي كان يلقبه أعضاء الجماعة بـ"الحاج مصطفى رفعت"، إنني كنت أجلس مع الواحد من هؤلاء "قيادات الصف الأول والثاني للجماعة" من بعد صلاة العشاء إلى الفجر، وأنا لا أخاف منهم، ولكني أخاف منكم أنتم، في إشارة منه إلى أن المبادرة كانت عملا أمنيا بامتياز، وأنه تجاوز نقاطا مفخخة، حيث جعلهم يراجعون أنفسهم في مواجهة الدولة، وجعل أفكارا أخرى متجذّرة كتكفير الحاكم الذي لم يحسم بشكل واضح، وهذا ما جرى أيضا في مراجعة تنظيم الجهاد على يد التكفيري سيد إمام الذي تسبب في انقسام التيار الجهادي، على سبيل المثال، حينما تحدث عن حكم الأعوان، وأن من عاون السلطان الكافر فهو يكفر، وراجع نفسه من ناحية مواجهة الدولة فقط فتركوه.

نجحت المبادرة بسبب تلك التربية التي تربينا عليها، وهي تربية الاستجابة لأقوال العلماء والتراث إذا تبين لنا الدليل، والأمية العلمية والفقهية والسياسية لدى نحو 97% من القواعد، والقدسية التي تربينا عليها لمشايخ الجماعة، وأجزم أن أكثر الذين كانوا يبدون اقتناعا بالمبادرة في أيامها الأولى لم يكن عندهم تصور كافٍ لأي شيء، بل لا يعرفون إلى أي مدى حقيقي سوف يسيرون عليه، إلا القِلّة القليلة التي كانت تستشرف المستقبل، حيث كان هناك خلاف كبير لدى الذين يفهمون ويعقلون حول التصورات لها، وكان المعنى الشائع أن هذه المبادرة سوف تنقذنا مما نحن فيه من الهلاك، وهذا هو الأصل الذي كانت تُبنى عليه التصورات، ومن ثم كان لا وجود للمبادرة الحقيقية إلا بالفهم، وكيف ذلك ونحن لم يكن عندنا قياسات حقيقية للتحديات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ولذا فقد كان تغليب المصلحة الذاتية على الطموحات هو أسهل شيء.

وبدا الخطاب الموجّه إلى الناس فترة ما قبل الثورة أشبه بحديث النفس وتخطيء الماضي، وكأنه موجّه إلى فئة شباب الجماعة أو إلى النظام والمراقبين الآخرين من أجل إعطاء تطمينات، يمكن أن تمكّن الجماعة من مساحة أكبر للعمل، مع الاعتراف إلى حد كبير بأن خلافات في وجهات نظر قد حدثت حول بعض الأمور التي هي ليست جوهرية في المقام الأول، كحكم الإسلام في الغناء أو مبادرة السلام أو المقالات التي كانت عن الفترة الناصرية.. إلخ، ولم يكن ذلك عبارة عن تنوع في الأفكار بقدر ما هو نقلة وأسلوب جديد في التعاطي مع التنوعات في الظروف المحيطة بها وأفكار من حولها، وهناك فرق بين التنوع والتعاطي.

سنجد في مبادرة الجماعة الإسلامية كيف أنهم اعتبروا أن الذين خرجوا في الأعمال القتالية كانوا مجتهدين في الوصول إلى الحق وبذلوا الوسع وكانوا صادقي النية، لا يقصدون سوى رضا المولى سبحانه، كما أنهم أكدوا أنهم لا يستطيعون أن يلغوا الحَسبة (تغيير المنكرات) ولا الجهاد في سبيل لله، ولكنهم سيحاولون ضبط المسألة، وأن يكونوا إيجابيين في المجتمع، بحيث لا يؤدون إلى المفاسد وترك المصالح، وليس غريبا إذن ما يجري من الجماعة الآن من تشكيل للجان شعبية أو تكوين لجبهة النصرة لسوريا، لأنهم لم يضعوا قيودا على الجهاد أو تغيير المنكرات، فقد أكدوا تجنب الاحتساب باليد، خشية وقوع المفاسد والضرر، وأكدوا أن فريضة الجهاد وضع لها الإسلام سياجا وهو أن تكون لله وألا تضر بمصالح الأمة العليا.

****

كان أهم ما يوجّه قبل الثورة إلى الجماعة هو غياب البرنامج السياسي التفصيلي، رغم أن الجماعة ربما أدركت بقراءتها للواقع السياسي وقتها، أنه لا يحمل أي أفق قريب عن السماح لها قانونيا بالعمل العام، وكان هذا هو الخطر الحقيقي الذي أدى إلى انتكاسة عدد غير قليل، تصور أن تلك المراجعات والآراء إنما تعبر عن خيانة الزعيم أو عدم صدقه، ولم ينظر على أنها تطور بالحسابات التقليدية لفكر القائد ودليل على نضجه، كما أنها عكست الفشل الحالي بعد الثورة في الجاهزية في العمل والهيكلة، وهذا ما تبين أثره بعد ذلك في الصراع الذي دار بين قيادات الصف الأول، وإقالة صفوت عبد الغني ووقف عصام دربالة لحين التحقيق معه.

وحينما حدثت التحوّلات الفكرية للجماعة وتصحيح المفاهيم كان لا بد أن يصبح هناك تطور دائب في أوضاع التنظيم وأشكاله وعلاقاته، وأن ترسم لنا قيادة الجماعة صورة مثالية لنموذج تنظيمي جديد، حسب مقتضيات الشرع والواقع، فيبدو نموذجا جاذبا أشد بساطة، لا نموذجا طاردا، أو نموذجا خياليا مأمولا، وأن يكون لهذا التنظيم كيان معنوي وشخصية اعتبارية متميزة عن غيره من الأفراد والقوى الاجتماعية، مما يؤدي إلى تماسك فعّال وقدر كبير من الإجماع الداخلي حول أمور جوهرية ثلاثة، هي: طبيعة التنظيم ورسالته، ومبرر وجوده، وبنيته وإجراءاته الداخلية ذات الصلة بتغيير قادته واتخاذ قراراته، بالإضافة إلى مرونة عملية تتمثل في تعاطي التنظيم مع التحديات المتغيرة، فإذا غاب كل ذلك أصبح كل ما كانت تفعله الجماعة عبارة عن استهلاك وقتي، وهذا ما حصل بالفعل، حيث أضحت الجماعة بوابة خلفية للإخوان.

إن الضعف البائن للجماعة والتحديات التي واجهتها أديا إلى ارتمائها في أحضان الإخوان، فبإطلالة على بنية الجماعة الداخلية القديمة وأجيالها الثلاثة، جيل 81 والأجيال التي تليه وتأثير سنوات العنف والمراجعة عليه، سنرى غيابا واضحا لأعداد كبيرة عن المشهد وعن الصفحة الرئيسية لموقع الجماعة، وهذا كله يؤكد لنا أن الجماعة لم تنجح في عمل بنية داخلية دعوية، وأن بنيتها الموجودة لا تقوم على المرونة، كما أن أمورا أخرى تجري وتسير في هذا السياق، ومنها دمج الجماعة في المجتمع بعد الثورة، مما جعل الفوضى والغياب الأمني يغريانها، ويؤديان إلى إصابة القاعدة والقيادة فيها بالخلل والخطاب المرتبك.

ولعل خروج الجماعة للعمل مرة أخرى بعد محنة قاسية أيام مبارك كان مقدمة لتحديات هي أكبر في الحجم، وأول هذه التحديات هو تحديات المرحلة العمرية، كون الجماعة كان عصبها الرئيسي من الشباب، وقد كبرت أعمارهم داخل السجون ومشايخهم قد دخلوا في العقد السادس، وهي مراحل عمرية لها خصائصها ولها متطلباتها، في وقت تحتاج الجماعة فيه إلى مزيد من الشباب والفتوة من أجل إعادة البناء بعد مرور أعوام طوال من عدم الهيكلة والركود، مع وجود حاجات كبيرة لهؤلاء الأفراد بسبب العوز المادي لكثير منهم، والذي كان من الأولى هو بناؤه فترة ما قبل الثورة، حتى لا يؤثر سلبا على الفرد في التفاعل مع قضايا دينه وبلده وحركته بعد الثورة، وإن كان هذا التحدي يمكن تداركه والقضاء عليه للنفوس العالية السامية، ولكن العمل الحالي السياسي لا ينكر أحد أنه يحتاج إلى مزيد من الشباب والفتوة والجهد والدعم المادي الكبير، وسنرى أن الانفجار الذي أحدثه السن والتفكير الذي تطور نوعا ما دفع مجموعة ليست بالقليلة نحو الخروج عن تفكير الشخص الواحد، وهذا تحدٍ ظهرت نتائجه في خروج أكثر من مجموعة من داخل الجماعة تبحث عن الطريق البديل سواء من داخل الجماعة عن طريق حزب أو جمعية تعمل داخل إطار القيادة مع نوع من الانفصال، أو من خلال هيكلة جديدة تحمل فيها خيط اتصال وولاء للجماعة، أو ما يسمى بتعبير أدق باحترام لها دون التزام تنظيمي حقيقي بها، وذلك مثل مجموعة إمبابة على سبيل المثال.

يمكن كذلك اعتبار الشورى والديموقراطية من أهم التحديات التي واجهت الجماعة الإسلامية، وهذا التحدي هو الذي كان أول الفشل والخلل في تجربتها منذ نشأتها إلى فترة ما بعد الثورة المصرية، حيث اعتمدت على مجلس شورى عدده قليل جدا نسبيا، بالإضافة إلى أن اختياره يتم وفق قواعد شخصية وليس وفق قواعد منظمة للعمل كله من القاعدة إلى القمة، ولذا فإن القرارات المصيرية للجماعة في مواجهة الحكومة أو في وقف العنف والمواجهة لم يتخذها سوى عدد لا يزيد على عشرين فردا، كان أغلبهم خارج مصر، وعناصرهم القوية تقضي أحكاما في السجون. وهكذا فإن اتجاه القبول بالنموذج الديموقراطي يحتاج إلى جهد كبير ومنظم باعتباره لم يترسخ بالقدر الكافي في ثقافة الجماعة الإسلامية نظرية وممارسة، وهذا ما يؤدي أحيانا إلى تصريحات وقرارات من بعض قياداتها، لا تعجب الكثيرين، لكنهم لا يملكون سوى الرضا بها، لأنهم عاشوا طوال عمرهم يبنون عملهم حول شخص القائد وقدسية الزعيم، وكانت تتمحور الأفكار والآراء حول هذا القائد، وما ترتب على ذلك من تقزيم حيز العمل فترات الجماعة الماضية، ما عدا شيئا واحدا فقط هو نجاح هذه القدسية في عدم تخطئة مبادرة وقف العنف.

ولم تستطع الجماعة أن تواكب الظروف المحيطة بها، ولعل هذا ما دفعها إلى الارتماء في أحضان الإخوان للقفز على ضعفها، في مجتمع عنده حساسية من ممارسات الجماعة السابقة، وبالذات في المدن التي مورس فيها العنف بشراسة، مثل ملوي وديروط وغالبية مدن الصعيد، حيث قتل فيها عدد ليس بالقليل من الأمن ومخبري الحكومة، وعائلاتهم التي تحمل الضغينة والحقد للجماعة وقادتها، مع خلفية ضخمة من ممارسات الجماعة السابقة والتي لم تُنْسَ إلى الآن.

فقدت الجماعة مبادرة وقف العنف نهائيا، وذهبت ندوات تصحيح المفاهيم ولن تعود، بعد أن مرّت الجماعة بمراحل متنوعة منذ نشأتها الحقيقية عام 1977، الأولى يمكن أن توصف بالعنف المفرط، الذي بدأ باغتيال السادات وأحداث أسيوط وانتهى بإطلاق المبادرة وحادثة الأقصر عام 1997، والثانية من عام 2001 وتفعيل المبادرة لوقف العنف، حتى ثورة 25 يناير، والثالثة من الثورة وحتى الدعوة لتشكيل لجان شعبية، وهو ما نسميه إطلاق الرصاص على مبادرة وقف العنف القديمة، واغتيال خطاب ناجح إبراهيم قبل الثورة، وتقليد قيادات الجناح العسكري المناصب داخل الجماعة، والتأصيل لمرحلة عنف، ولكن هذه المرة هو العنف الممنهج.