أقسام المدونة

الأحد، 21 أبريل 2013

دكتور نبيل فاروق يكتب: دهاليز السياسة


دهاليز السياسة عميقة..
وعديدة..
ومتشابكة..
متشابكة إلى حد شديد التعقيد، تعجز العديد من العقول عن فهمه، أو حتى محاولة التوغُّل فيه..

ومن عجائب السياسة، أنها تبدو للمتابع من الخارج، وكانها أمر واضح مفهوم، في حين أنها أشبه بشبكة العنكبوت، من العسير تحديد بدايتها ونهايتها، ولكن من المهين تحديد تأثيرها على كل ما يقع فيها..

ودعونا نضرب مثلا بصيدلية عادية..
الصيدلية تحوي مئات من الأدوية، بمختلف أنواعها..
أقراص.. كبسولات.. أمبولات.. دهانات.. أجهزة طبية بسيطة.. مواد مخدِّرة طبية.. مطهرات جروح.. إلخ.. إلخ..

ولدينا عالِم ذرة فذٌّ، يزور تلك الصيدلية على نحو منتظم؛ ليحصل على ما يحتاج إليه من أدوية وعقاقير..
وفي كل زيارة، يلاحظ عالم الذرَّة الفذُّ ما يدور فى الصيدلية، ويرى بعقليته العلمية أنه يمكن إعادة ترتيب تلك الصيدلية، على نحو أكثر تنظيما، يجعلها قادرة على تقديم خدمة أفضل، وتحقيق أرباح أكثر..

ثم تأتيه الفرصة، ويصير هو المسئول عن الصيدلية..
ولأنها فرصته في إثبات وجهة نظره، فقد قرَّر ذلك العالم الفذُّ أن يضع أفكاره موضع التنفيذ؛ ليثبت أنه الأقدر على إدارة تلك الصيدلية..
وبدأ هذا بالفعل..

ولكن قبل أن يتم تنفيذ فكرته، فوجئ بمندوبي شركات الأدوية، يطالبونه بمستحقات الشركات، ويعرضون عليه أدويتها الجديدة..

وبينما يحاول حسم أمره في هذا الشأن، فوجئ بمندوب من وزارة الصحة، أتى للتفتيش على الصيدلية..
وأثناء انهماكه مع هذا وذاك، وصل تفتيش الصيدلية؛ لمراجعة قائمة الأدوية لديه، والتأكَّد من صلاحيتها..
ثم مندوب الشئون الاجتماعية؛ لمتابعة حالة موظفي الصيدلية..
ومندوب الضرائب..
ورياسة الحي..

وارتبك العالم الفذُّ، ما بين كل هؤلاء، ولم يعد قادرا على إعادة ترتيب الصيدلية، على النحو الذي خطَّط له..
وانتقل ارتباكه إلى الصيدلية وإداراتها..

ومع وصول مريض يشكو من أن الدواء الذي حصل عليه من الصيدلية، تسبَّب له في حالة من الغثيان والقيء، فقد العالم الفذُّ أعصابه، وراح يصرخ في وجوه العاملين بالصيدلية.. وغضب العاملان..
وتمردَّوا..
وانهار مستوى الخدمة، الذي تقدِّمه الصيدلية..
وانخفضت إيراداتها، حتى أوشكت على الإفلاس..
ولم يصدِّق العالم الفذُّ هذا في البداية..

فكيف يمكن أن يفشل في إدارة صيدلية بسيطة، وهو العالم الفذُّ، الحاصل على جائزة نوبل في الذرة؟!

ومع زهوه بما حصل عليه، رفض الاعتراف بفشله..
فانهارت الصيدلية أكثر..
وأكثر..
وأكثر..

وهنا كان أمام العالم الفذ، الذي لا يشق له غبار في لهفته الأصلية، خيار واحد من اثنين..

الأوَّل أن يواصل محاولة إثبات ذاته، على الرغم مما يمكن أن يؤدي إليه هذا، من انهيار الصيدلية، وإفلاسها التام، فتنهار معها سمعته أيضا، ويخسر كل ما ربحه في حياته..
والثاني أن يعترف بفشله في إدارة الصيدلية، ويتنحَّى عن إدارتها لآخر، خبير في هذا الشأن، فينقذ الصيدلية، وينقذ معها سمعته..

باختصار، كان الخيار بين ذاته، أو الصيدلية..
علما بأن انهيار الصيدلية هو انهيار له أيضا..

القرار الذكي إذن، كان أن ينقذ الصيدلية من الانهيار، وينقذ سمعته من السقوط في الوقت ذاته..
هذا أشبه بشبكة السياسة شديدة التعقيد..

والخطأ الذي ارتكبه العالم الفذُّ، في إدارة الصيدلية، هو نفس الخطأ، الذي يمكن أن يرتكبه سياسي غير محنَّك، في إدارة لعبة السياسة..
أن ينظر إلى الأمور من زاوية واحدة فحسب..

لقد بدأ إدارته للصيدلية، دون أن يرى إلا ترتيب الأدوية والعقاقير فحسب..
ولم يحسب حساب كل الأمور الأخرى..

وكذلك في السياسة.. لا يمكنك أن تمارسها، وعيناك لا تريان إلا أمرا واحدا فحسب..
فهو قد ينجح في ترتيب الأدوية والعقاقير، ثم يدخل السجن، مع أول تفتيش على أدوية جدول المخدرات، في غياب دفاتر مراجعة خاصة بها!!

عبقريته في علم الذرَّة إذن لم تكن كافية للنجاح..
وخبرته المتدنية، في إدارة الصيدليات، كانت سببا في الفشل..

وكان من الممكن تفادي كل هذا؛ لو أنه تواضع في رؤيته، وقرَّر أنه لا يفهم كل ما يدور من حوله، واستعان بخبير في إدارة الصيدليات كمعاون له..
فليس من العيب أن تجهل..
ولكن العيب أن تصر على الجهل..

ليس العيب في ألا تعرف؛ فما من مخلوق في الكون، يمكن أن يعرف كل شيء..
العيب في ألا تستعين بمن يعرف..
العيب في ألا تستعين بأهل الخبرة..
وخصوصا عندما يرتبط هذا بحياة ومستقبل آخرين..
وبكيان قد ينهدم، إن لم تحسن التعامل معه..

والمكابرة هي آفة الآفات، في هذه الحالة..
فالاعتراف بالحق فضيلة..
بل هو خير الفضائل..

دعونا الآن نخرج من مثال الصيدلية هذا، إلى عالم السياسة الحقيقي..
ذلك العالم المتشابك..
المعقَّد..
العسير..
ودعونا نعود إلى عالمنا الفعلي..
إلى مصر..
ولنحسبها معا..
وبعقل وضمير..

مصر وطن كبير، به أكبر سكان في العالم العربي، وحدود مترامية الأطراف، وبيئات مختلفة، من السكان الساحليين، في الإسكندرية ومطروح ومدن القناة، إلى بدو سيناء والصحراء الغربية، إلى أهل الصعيد وأسوان والنوبة..
وعقائد مختلفة..
وأفكار ورؤى متغايرة..
والتعامل مع وطن كهذا أمر عسير..
بل شديد العسر..

وخصوصا بعد ثورة عظيمة، انتفضت لها مصر كلها، وراحت تحلم بعدها بالمزيد من الحرية والتنمية والكرامة وحقوق الإنسان وسيادة القانون..

ولقد عانى هذا الشعب طويلا، قبل أن ينتفض في النهاية..
وجاءت انتفاضته قوية..
عنيفة..
صارخة..
وأسقط نظاما، عانى منه طويلا..
وانتظر أن يبني نظاما أفضل..
نظاما يحترم إرادته..
وكرامته..
وآدميته..
فما الذي حصل عليه؟!
احسبوها أنتم..
وللحديث بقية..
موقع بص وطل